فصل: فَصْلٌ: يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ أَنْ يَتَحَرَّى فِي التَّفْسِيرِ مُطَابَقَةَ الْمُفَسَّرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.تَنْبِيهٌ: مَعْرِفَةُ التَّفَاسِيرِ الْوَارِدَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ بِحَسَبِ قِرَاءَةٍ مَخْصُوصَةٍ:

مِنَ الْمُهِمِّ مَعْرِفَةُ التَّفَاسِيرِ الْوَارِدَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ بِحَسَبِ قِرَاءَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَرِدُ عَنْهُمْ تَفْسِيرَانِ فِي الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ مُخْتَلِفَانِ، فَيُظَنُّ اخْتِلَافًا وَلَيْسَ بِاخْتِلَافٍ، وَإِنَّمَا كُلُّ تَفْسِيرٍ عَلَى قِرَاءَةٍ، وَقَدْ تَعَرَّضَ السَّلَفُ لِذَلِكَ‏.
فَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الْحِجْر: 15]. مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ {سُكِّرَتْ} بِمَعْنَى سُدَّتْ وَمِنْ طُرُقٍ أَنَّهَا بِمَعْنَى أُخِذَتْ‏.
ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَنْ قَرَأَ سُكِّرَتْ مُشَدِّدَةً، فَإِنَّمَا يَعْنِي سُدَّتْ، وَمَنْ قَرَأَ: {سُكِرَتْ} مُخَفَّفَةً، فَإِنَّهُ يَعْنِي سُحِرَتْ، وَهَذَا الْجَمْعُ مِنْ قَتَادَةَ نَفِيسٌ بَدِيعٌ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 50]. أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ الَّذِي تَهْنَأُ بِهِ الْإِبِلُ‏.
وَأَخْرَجَ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِه: أَنَّهُ النُّحَاسُ الْمُذَابُ، وَلَيْسَا بِقَوْلَيْنِ.
وَإِنَّمَا الثَّانِي تَفْسِيرٌ لِقِرَاءَةِ مَنْ (قَطْرٍ آنٍ) بِتَنْوِينٍ قَطْرٍ وَهُوَ النُّحَاسُ وَ(آنٍ) شَدِيدِ الْحَرِّ كَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَكَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏‏.
وَأَمْثِلَةُ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ، وَالْكَافِلُ بِبَيَانِهَا كِتَابُنَا أَسْرَارُ التَّنْزِيلِ وَقَدْ خَرَّجْتُ عَلَى هَذَا قَدِيمًا الِاخْتِلَافَ الْوَارِدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَة: {أَوْ لَامَسْتُمُ} [النِّسَاء: 43]. هَلْ هُوَ الْجِمَاعُ أَوِ الْجَسُّ بِالْيَدِ‏. فَالْأَوَّلُ تَفْسِيرٌ لِقِرَاءَةِ {لَامَسْتُمُ} ‏. وَالثَّانِي لِقِرَاءَةِ (لَمَسْتُمْ) وَلَا اخْتِلَاف.

.فَائِدَةٌ: في تَفْسِيرِ الْمُتَشَابِهِ:

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيّ: لَا يَحِلُّ تَفْسِيرُ الْمُتَشَابِهِ إِلَّا بِسُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ خَبَرٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ. هَذَا نَصُّهُ‏.

.فَصْلٌ: كَلَامُ الصُّوفِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ لَيْسَ بِتَفْسِير:

وَأَمَّا فِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ فَلَيْسَ بِتَفْسِير.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيه: وَجَدْتُ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْوَاحِدِيِّ الْمُفَسِّرِ، أَنَّهُ قَالَ: صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ حَقَائِقَ التَّفْسِيرِ فَإِنْ كَانَ قَدِ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ تَفْسِيرٌ فَقَدْ كَفَرَ‏.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاح‏: وَأَنَا أَقُول: الظَّنُّ بِمَنْ يُوثَقُ بِهِ مِنْهُمْ- إِذَا قَالَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ- أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ تَفْسِيرًا، وَلَا ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الشَّرْحِ لِلْكَلِمَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانُوا قَدْ سَلَكُوا مَسْلَكَ الْبَاطِنِيَّةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُمْ لِنَظِيرِ مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ النَّظِيرَ يُذْكَرُ بِالنَّظِيرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيَا لَيْتَهُمْ لَمْ يَتَسَاهَلُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيهَامِ وَالْإِلْبَاس.
وَقَالَ النَّسَفِيُّ فِي عَقَائِدِه: النُّصُوصُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَالْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى مَعَانٍ يَدَّعِيهَا أَهْلُ الْبَاطِنِ إِلْحَاد.
قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِه: سُمِّيَتِ الْمَلَاحِدَةُ بَاطِنِيَّةً لِادِّعَائِهِمْ أَنَّ النُّصُوصَ لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا، بَلْ لَهَا مَعَانٍ بَاطِنِيَّةٌ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْمُعَلِّمُ، وَقَصْدُهُمْ بِذَلِكَ نَفْيُ الشَّرِيعَةِ بِالْكُلِيَّةِ‏.
قَالَ: وَأَمَّا مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ النُّصُوصَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فِيهَا إِشَارَاتٌ خَفِيَّةٌ إِلَى دَقَائِقَ تَنْكَشِفُ عَلَى أَرْبَابِ السُّلُوكِ، يُمْكِنُ التَّطْبِيقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الظَّوَاهِرِ الْمُرَادَّةِ، فَهُوَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَمَحْضِ الْعِرْفَان.
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ سِرَاجُ الدِّينِ الْبَقْلِينِيُّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الْبَقَرَة: 255]. إِنَّ مَعْنَاه: مَنْ ذَلَّ أَيْ مِنَ الذُّلِّ. ذِي: إِشَارَةٌ إِلَى النَّفْسِ يَشْفِ، مِنَ الشِّفَاءِ جَوَابُ (مَنْ) ع: أَمُرُّ مِنَ الْوَعْيِ، فَأَفْتَى بِأَنَّهُ مُلْحِدٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فُصِّلَتْ: 40]. قَالَ ابْنُ عَبَّاس: هُوَ أَنْ يَضَعَ الْكَلَامَ عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ‏. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ‏.
‏فِإِنْ قُلْتَ‏: فَقَدْ قَالَ الْفِرْيَابِيُّ‏: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، أوجه ذلك وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ، وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ».
وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مَرْفُوعًا: «الْقُرْآنُ تَحْتَ الْعَرْشِ، لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ يُحَاجُّ الْعِبَاد».
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا‏. إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْهُ حَرْفٌ إِلَّا لَهُ حَدٌّ، وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ‏.
قُلْتُ‏: أَمَّا الظَّهْرُ وَالْبَطْنُ فَفِي مَعْنَاهُ أَوْجُهٌ‏.
‏أَحَدُهَا‏: أَنَّكَ إِذَا بَحَثْتَ عَنْ بَاطِنِهَا وَقِسْتَهُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَقَفْتَ عَلَى مَعْنَاهَا‏.
وَالثَّانِي‏: أَنَّ مَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا عَمِلَ بِهَا قَوْمٌ، وَلَهَا قَوْمٌ سَيَعْمَلُونَ بِهَا، كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ‏.
الثَّالِث: أَنَّ ظَاهِرَهَا لَفْظُهَا، وَبَاطِنَهَا تَأْوِيلُهَا‏.
الرَّابِع: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهُوَ أَشْبَهُهَا بِالصَّوَاب: إِنَّ الْقِصَصَ الَّتِي قَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَمَا عَاقَبَهُمْ بِهِ، ظَاهِرُهَا الْإِخْبَارُ بِهَلَاكِ الْأَوَّلِينَ، إِنَّمَا هُوَ حَدِيثٌ حَدَّثَ بِهِ عَنْ قَوْمِ، وَبَاطِنُهَا وَعْظُ الْآخَرِينَ، وَتَحْذِيرُهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا كَفِعْلِهِمْ، فَيَحِلُّ بِهِمْ مِثْلَ مَا حَلَّ بِهِمْ‏.
وَحَكَى ابْنُ النَّقِيبِ قَوْلًا خَامِسًا‏: أَنَّ ظَهْرَهَا مَا ظَهَرَ مِنْ مَعَانِيهَا لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِالظَّاهِرِ، وَبَطْنَهَا مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي أَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا أَرْبَابَ الْحَقَائِقِ‏.
وَمَعْنَى قَوْلِه: وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدٌّ أَيْ: مُنْتَهًى فِيمَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ مَعْنَاه.
وَقِيلَ: لِكُلِّ حُكْمٍ مِقْدَارٌ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَاب.
وَمَعْنَى قَوْلِه: وَلِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ. لِكُلِّ غَامِضٍ مِنَ الْمَعَانِي وَالْأَحْكَامِ مَطْلَعٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَيُوقَفُ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ‏.
وَقِيلَ: كُلُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ الْمُجَازَاةِ‏.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏: الظَّاهِرُ التِّلَاوَةُ، وَالْبَاطِنُ الْفَهْمُ، وَالْحَدُّ أَحْكَامُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْمَطْلَعُ الْإِشْرَافُ عَلَى الْوَعْدِ الْوَعِيد.
قُلْتُ‏: يُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ ذُو شُجُونٍ وَفُنُونٍ، وَظُهُورٍ وَبُطُونٍ، لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا تُبْلَغُ غَايَتُهُ، فَمَنْ أَوْغَلَ فِيهِ بِرِفْقٍ نَجَا، وَمَنْ أَوْغَلَ فِيهِ بِعُنْفٍ هَوَى. أَخْبَارٌ وَأَمْثَالٌ، وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ، وَنَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ، وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ، وَظَهْرٌ وَبَطْنٌ، فَظَهْرُهُ التِّلَاوَةُ، وَبَطْنُهُ التَّأْوِيلُ، فَجَالِسُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَجَانِبُوا بِهِ السُّفَهَاء.
وَقَالَ ابْنُ سَبُعٍ فِي شِفَاءِ الصُّدُور‏: وَرَدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَفْقُهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا‏.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُود: مَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فَلْيُثَوِّرَ الْقُرْآنَ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ تَفْسِيرِ الظَّاهِرِ‏.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاء‏: لِكُلِّ آيَةٍ سِتُّونَ أَلْفَ فَهْمٍ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَهْمَ مَعَانِي الْقُرْآنِ مَجَالًا رُحْبًا، وَمُتَّسَعًا بَالِغًا، وَأَنَّ الْمَنْقُولَ مِنْ ظَاهِرِ التَّفْسِيرِ، لَيْسَ يَنْتَهِي الْإِدْرَاكُ فِيهِ بِالنَّقْلِ، وَالسَّمَاعَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ التَّفْسِيرِ لِيَتَّقِيَ بِهِ مَوَاضِعَ الْغَلَطِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَّسِعُ الْفَهْمُ وَالِاسْتِنْبَاطُ، وَلَا يَجُوزُ التَّهَاوُنُ فِي حِفْظِ التَّفْسِيرِ الظَّاهِرِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْهُ أَوَّلًا، إِذْ لَا يَطْمَعُ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْبَاطِنِ قَبْلَ إِحْكَامِ الظَّاهِرِ، وَمَنِ ادَّعَى فَهْمَ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَحْكُمِ التَّفْسِيرَ الظَّاهِرَ فَهُوَ كَمَنِ ادَّعَى الْبُلُوغَ إِلَى صَدْرِ الْبَيْتِ، قَبْلَ أَنْ يُجَاوِزَ الْبَابَ. انْتَهَى.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ لَطَائِفِ الْمِنِن:
اعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ لِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ بِالْمَعَانِي الْعَرَبِيَّةِ لَيْسَ إِحَالَةً لِلظَّاهِرِ عَنْ ظَاهِرِهِ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةَ مَفْهُومٌ مِنْهُ مَا جَلَبَتِ الْآيَةَ لَهُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ، وَثَمَّ أَفْهَامٌ بَاطِنَةٌ تُفْهَمُ عِنْدَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، لِمَنْ فَتَحَ اللَّهُ قَلْبَهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث: «لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ» فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْ تَلَقِّي هَذِهِ الْمَعَانِي مِنْهُمْ وَأَنْ يَقُولَ لَكَ ذُو جَدَلٍ وَمُعَارِضَةٍ: هَذَا إِحَالَةٌ لِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِحَالَةٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ إِحَالَةً لَوْ قَالُوا: لَا مَعْنَى لِلْآيَةِ إِلَّا هَذَا، وَهُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ، بَلْ يَقْرَءُونَ الظَّوَاهِرَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا مُرَادًا بِهَا مَوْضُوعَاتُهَا، وَيَفْهَمُونَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَفْهَمَهُمْ‏.

.فَصْلٌ: يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ أَنْ يَتَحَرَّى فِي التَّفْسِيرِ مُطَابَقَةَ الْمُفَسَّرِ:

قَالَ الْعُلَمَاء: يَجِبُ عَلَى الْمُفَسِّرِ أَنْ يَتَحَرَّى فِي التَّفْسِيرِ مُطَابَقَةَ الْمُفَسَّرِ، وَأَنْ يَتَحَرَّزَ فِي ذَلِكَ مِنْ نَقْصٍ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي إِيضَاحِ الْمَعْنَى، أَوْ زِيَادَةٍ لَا تَلِيقُ بِالْغَرَضِ، وَمِنْ كَوْنِ الْمُفَسِّرِ فِيهِ زَيْغٌ عَنِ الْمَعْنَى، وَعُدُولٌ عَنْ طَرِيقِهِ. وَعَلَيْهِ بِمُرَاعَاةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ وَمُرَاعَاةِ التَّأْلِيفِ، وَالْغَرَضِ الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ، وَأَنْ يُؤَاخِيَ بَيْنَ الْمُفْرَدَاتِ.
وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْبَدَاءَةُ بِالْعُلُومِ اللَّفْظِيَّةِ، وَأَوَّلُ مَا يَجِبُ الْبَدَاءَةُ بِهِ مِنْهَا تَحْقِيقُ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ فَيَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، ثُمَّ التَّصْرِيفِ، ثُمَّ الِاشْتِقَاقِ، ثُمَّ يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا بِحَسَبِ التَّرْكِيبِ، فَيَبْدَأُ بِالْإِعْرَابِ، ثُمَّ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعَانِي، ثُمَّ الْبَيَانِ، ثُمَّ الْبَدِيعِ، ثُمَّ يُبَيِّنُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ، ثُمَّ الِاسْتِنْبَاطَ، ثُمَّ الْإِشَارَةَ.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي أَوَائِلِ الْبُرْهَان‏: قَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ يَبْدَءُوا بِذِكْرِ سَبَبِ النُّزُولِ، وَوَقَعَ الْبَحْثُ فِي أَنَّهُ أَيُّمَا أَوْلَى بِالْبَدَاءَةِ بِه: بِتَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ، أَوْ بِالْمُنَاسَبَةِ، لِأَنَّهَا الْمُصَحِّحَةُ لِنَظْمِ الْكَلَامِ، وَهِيَ سَابِقَةٌ عَلَى النُّزُول.
قَالَ: وَالتَّحْقِيقُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الْمُنَاسِبَةِ مُتَوَقِّفًا عَلَى سَبَبِ النُّزُولِ، كَآيَة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النِّسَاء: 58]. فَهَذَا يَنْبَغِي فِيهِ تَقْدِيمُ ذِكْرِ السَّبَبِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْوَسَائِلِ عَلَى الْمَقَاصِدِ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى ذَلِكَ فَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ الْمُنَاسَبَةِ‏.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏: جَرَتْ عَادَةُ الْمُفَسِّرِينَ مِمَّنْ ذَكَرَ فَضَائِلَ الْقُرْآنِ أَنْ يَذْكُرَهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّرْغِيبِ وَالْحَثِّ عَلَى حِفْظِهَا، إِلَّا الزَّمَخْشَرِيَّ فَإِنَّهُ يَذْكُرُهَا فِي أَوَاخِرِهَا‏.
قَالَ مَجْدُ الْأَئِمَّةِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عُمَرَ الْكِرْمَانِيُّ‏: سَأَلْتُ الزَّمَخْشَرِيَّ عَنِ الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَاتٌ لَهَا، وَالصِّفَةُ تَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ الْمَوْصُوفِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي كُتُبِ التَّفْسِير‏: حَكَى اللَّهُ كَذَا فَيَنْبَغِي تَجَنُّبُهُ‏.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو النَّصْرِ الْقُشَيْرِيُّ فِي الْمُرْشِد: قَالَ مُعْظَمُ أَئِمَّتُنَا‏: لَا يُقَالُ كَلَامُ اللَّهِ يُحْكَى، وَلَا يُقَالَ: (حَكَى اللَّهُ) لِأَنَّ الْحِكَايَةَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ الشَّيْءِ، وَلَيْسَ لِكَلَامِهِ مِثْلٌ‏. وَتَسَاهَلَ قَوْمٌ فَأَطْلَقُوا لَفْظَ الْحِكَايَةِ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ إِطْلَاقُ الزَّائِدِ عَلَى بَعْضِ الْحُرُوفِ، وَقَدْ مَرَّ فِي نَوْعِ الْإِعْرَابِ.
وَعَلَى الْمُفَسِّرِ أَنْ يَتَجَنَّبَ ادِّعَاءَ التَّكْرَارِ مَا أَمْكَنَهُ‏. قَالَ بَعْضُهُمْ‏: مِمَّا يَدْفَعُ تَوَهُّمَ التَّكْرَارِ فِي عَطْفِ الْمُتَرَادِفَيْنِ نَحْوَ: {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} [الْمُدَّثِّر: 28]. {صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [الْبَقَرَة: 157]. وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُتَرَادِفَيْنِ يُحَصِّلُ مَعْنًى لَا يُوجَدُ عِنْدَ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ التَّرْكِيبَ يُحْدِثُ مَعْنًى زَائِدًا، وَإِذَا كَانَتْ كَثْرَةُ الْحُرُوفِ تُفِيدُ زِيَادَةَ الْمَعْنَى، فَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَلْفَاظِ. انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ فِي البُّرْهَان‏: لِيَكُنْ مَحَطَّ نَظَرِ الْمُفَسِّرِ مُرَاعَاةُ نَظْمِ الْكَلَامِ الَّذِي سِيقَ لَهُ وَإِنْ خَالَفَ أَصْلَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لِثُبُوتِ التَّجَوُّزِ‏.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏: عَلَى الْمُفَسِّرِ مُرَاعَاةَ مَجَازِيَّ الِاسْتِعْمَالَاتِ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَظُنُّ بِهَا التَّرَادُفُ، وَالْقَطْعُ بِعَدَمِ التَّرَادُفِ مَا أَمْكَنَ، فَإِنَّ لِلتَّرْكِيبِ مَعْنًى غَيْرُ مَعْنَى الْإِفْرَادِ، وَلِهَذَا مَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وُقُوعَ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ مَوْقِعَ الْآخَرِ فِي التَّرْكِيبِ، وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ فِي الْإِفْرَادِ. انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ‏: كَثِيرًا مَا يَشْحَنُ الْمُفَسِّرُونَ تَفَاسِيرَهُمْ عِنْدَ ذِكْرِ الْإِعْرَابِ بِعِلَلِ النَّحْوِ وَدَلَائِلِ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَدَلَائِلِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، وَدَلَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي تَآلِيفِ هَذِهِ الْعُلُومِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مُسَلَّمًا فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ دُونَ اسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا: ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ وَأَحَادِيثَ فِي الْفَضَائِلِ، وَحِكَايَاتٍ لَا تُنَاسِبُ، وَتَوَارِيخَ إِسْرَائِيلِيَّةٍ، وَلَا يَنْبَغِي ذِكْرُ هَذَا فِي عِلْمِ التَّفْسِير.
فَائِدَةٌ:
قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أُوَقِّرَ سَبْعِينَ بَعِيرًا مِنْ تَفْسِيرِ أُمِّ الْقُرْآنِ لَفَعَلْتُ فَضْلُ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يَحْتَاجُ تَبْيِينُ مَعْنَى الْحَمْدِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْمُ الْجَلِيلُ الَّذِي هُوَ اللَّهُ، وَمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ التَّنْزِيهِ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ الْعَالَمِ وَكَيْفِيَّتِهِ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ وَأَعْدَادِهِ، وَهِيَ أَلْفُ عَالَمٍ‏: أَرْبَعُمِائَةٍ فِي الْبَرِّ، وَسِتُّمِائَةٍ فِي الْبَحْرِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ ذَلِكَ كُلِّهِ‏.
‏فَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ الِاسْمَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ وَمَا يَلِيقُ بِهِمَا مِنَ الْجَلَالِ وَمَا مَعْنَاهُمَا، ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ جَمِيعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ الْحِكْمَةِ فِي اخْتِصَاصِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا‏.
فَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَوَاطِنِ وَالْأَهْوَالِ وَكَيْفِيَّةِ مُسْتَقَّرِهِ‏.
فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ الْمَعْبُودِ مِنْ جَلَالَتِهِ وَالْعِبَادَةِ، وَكَيْفِيَّتِهَا وَصِفَتِهَا وَأَدَائِهَا عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا، وَالْعَابِدِ فِي صِفَتِهِ، وَالِاسْتِعَانِةِ وَأَدَائِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا‏.
فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ مَا هِيَ، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمُ وَأَضْدَادِهِ، وَتَبْيِينِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ وَصِفَاتِهِمْ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا النَّوْعِ، وَتَبْيِينِ الْمَرْضِيِّ عَنْهُمْ وَصِفَاتِهِمْ وَطَرِيقَتِهِمْ، فَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ يَكُونُ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ مِنْ هَذَا الْقَبِيل.

.النَّوْعُ التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ: فِي غَرَائِبِ التَّفْسِيرِ:

أَلَّفَ فِيهِ مَحْمُودُ بْنُ حَمْزَةَ الْكِرْمَانِيُّ كِتَابًا فِي مُجَلَّدَيْنِ، سَمَّاهُ الْعَجَائِبَ وَالْغَرَائِبَ ضَمَّنَهُ أَقْوَالًا ذُكِرَتْ فِي مَعَانِي الْآيَاتِ مُنْكَرَةً، لَا يَحِلُّ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا، وَلَا ذِكْرُهَا إِلَّا لِلتَّحْذِيرِ مِنْهَا‏.
مِنْ ذَلِكَ مَنْ قَالَ فِي: {حم عسق} إِنَّ الْحَاءَ حَرْبُ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَالْمِيمَ وِلَايَةُ الْمَرْوَانِيَّةِ، وَالْعَيْنَ وِلَايَةُ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَالسِّينَ وِلَايَةُ السُّفْيَانِيَّةِ، وَالْقَافَ قُدْوَةُ مَهْدِيٍّ. حَكَاهُ أَبُو مُسْلِمٍ‏. ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فِيمَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ حَمْقَى.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي: {الم} مَعْنَى أَلِفٍ‏: أَلِفَ اللَّهُ مُحَمَّدًا فَبَعَثَهُ نَبِيًّا، وَمَعْنَى لَامٍ‏: لَامَهُ الْجَاحِدُونَ وَأَنْكَرُوهُ، وَمَعْنَى مِيمٍ‏: مِيمُ الْجَاحِدُونَ الْمُنْكِرُونَ، مِنَ الْمُومِ وَهُوَ الْبِرْسَامُ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [الْبَقَرَة: 179]. إِنَّهُ قَصَصُ الْقُرْآنِ، وَاسْتَدَلَّ بِقِرَاءَةِ أَبِي الْجَوْزَاء‏: {وَلَكُمْ فِي الْقَصَصِ} وَهُوَ بَعِيدٌ، بَلْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَفَادَتْ مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيل.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ فُورَكٍ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْلِه: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [الْبَقَرَة: 260]. إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ لَهُ صَدِيقٌ وَصَفَهُ بِأَنَّهُ قَلْبُهُ أَيْ: لِيَسْكُنَ هَذَا الصَّدِيقُ إِلَى هَذِهِ الْمُشَاهَدَةِ إِذَا رَآهَا عِيَانًا‏.
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ‏: وَهَذَا بِعِيدٌ جِدًّا‏.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [الْبَقَرَة: 286]. إِنَّهُ الْحُبُّ وَالْعِشْقُ وَقَدْ حَكَاهُ الْكَوَاشِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ‏.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الْفَلَق: 3]. إِنَّهُ الذَّكَرُ إِذَا انْتَصَبَ‏.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي مُعَاذٍ النَّحْوِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ} يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ {نارًا} أَيْ: نُورًا وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80]. تَقْتَبِسُونَ الدِّين.